عندما يُذكر الطرب البدوي الأصيل في تونس، يتقدّم اسم بلقاسم بوقنة، الفنان الذي غنّى من أعماق الجنوب، وأوصل نبض الصحراء ولهجة القبائل إلى قلب كل تونسي. صوته كان مرآة للجنوب التونسي وروحه، حاملًا معه تراثًا شعبيًا غنيًا، بين الحنين إلى الماضي وعبق الحاضر.
النشأة: جذور صحراوية وهوية راسخة
وُلد بلقاسم بوقنة في 27 سبتمبر 1963 في منطقة "القلعة" بمعتمدية دوز الشمالية بولاية قبلي. نشأ في بيئة بدوية عميقة الجذور، تتنفس التقاليد وتقدّس الكلمة واللحن. منذ صغره، تأثر بأصوات كبار الفنانين الشعبيين مثل المرزوقي والربوخ، وبالأغنية الشفوية التي تناقلتها الأجيال. هذه البيئة الصحرواية منحت صوته الأصالة والعمق، وجعلت الفن بالنسبة له رسالةً لا مجرد أداء.
البدايات: صوت بدوي يروي الحنين
انطلقت مسيرته الفنية في سن مبكرة، حيث تميز بصوت فريد يحمل دفء الجنوب وصدق الشعور. أخلص للأغنية البدوية، مقدّمًا إياها بروح معاصرة دون التفريط في جوهرها. لم يكن يسعى للشهرة، بل اختار أن يكون سفيرًا للهوية والثقافة الشعبية، يعبر عن وجدان البسطاء ويجسد هموم الإنسان العادي في صحراء تونس.
فنان الناس: قريب من القلوب لا من الأضواء
لم يسع بوقنة إلى الأضواء أو الشهرة الإعلامية. كان يفضل الغناء بين الناس في الأعراس، الأسواق، والمهرجانات الجهوية، حيث يلامس الحضور بشكل مباشر. بساطته وتواضعه جعلاه محبوبًا لدى الجماهير، التي اعتبرته واحدًا منها، لا نجمًا بعيدًا عن الواقع.
الرسالة: الأغنية كأداة صمود ثقافي
في زمن هيمنت فيه الموسيقى التجارية على الساحة، اختار بوقنة الحفاظ على روح الأغنية التونسية الأصيلة. مثّل نموذجًا للفنان المقاوم للنسيان الثقافي، صوتًا ينبع من التراب، يحمل هموم الإنسان البسيط، ويصون التراث الشفوي للأجيال القادمة. أعماله كانت تتجاوز الغناء، لتصبح رسالة ثقافية تحاكي الهوية التونسية وتعزز الانتماء للصحراء.
الفنان المربّي: من القسم إلى الركح
إلى جانب فنه، كان بلقاسم مربيًا وأستاذًا. مارس التعليم لسنوات طويلة، وكان قدوة لتلاميذه في الانضباط والسلوك. لم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل موجّهًا ومُلهمًا، يغرس القيم الوطنية وحب اللغة والثقافة التونسية في نفوس الشباب. هكذا جمع بين رسالته الفنية ورسالة التربية، مما جعله شخصية متعددة الأبعاد.
أعماله وإرثه الفني
رغم قلة الألبومات الرسمية، ترك بوقنة إرثًا غنيًا من الأغاني والقصائد، تتراوح بين الطرب البدوي التقليدي والروابط الموسيقية التي تعكس الحياة اليومية للجنوب التونسي. أغانيه كانت تحكي قصص الحب، العمل في الصحراء، والأمل، وأصبحت مرجعًا للأجيال الجديدة في الموسيقى الشعبية.
الوداع: الجنوب يبكي فنان الصحراء
في مايو 2024، ودّعت تونس فنانها الأصيل. خيم الحزن على دوز والجنوب بأكمله، فقد فقد المجتمع فنانًا حمل في صوته تاريخًا وثقافةً لا تُنسى. الكثيرون أعربوا عن أسفهم لرحيله، خاصة أن بوقنة لم يُكرّم كما يليق أثناء حياته رغم مكانته في الوجدان الشعبي.
إرث خالد: مهمة الدولة والمؤسسات
ترك بوقنة إرثًا فنيًا وثقافيًا يستحق التوثيق والحفظ. مسؤولية الدولة والمؤسسات الثقافية اليوم أن توثق أعماله، تؤسس مهرجانات باسمه، وتحفظ صوته في أرشيف وطني. إرثه ليس مجرد ذكرى، بل مرجع حي للباحثين والفنانين الشباب، ومصدر إلهام للحفاظ على التراث البدوي التونسي.
خاتمة: بلقاسم بوقنة.. صوت الصحراء لا يغيب
بلقاسم بوقنة لم يكن مجرد فنان، بل كان حارسًا للهوية الثقافية والتقاليد الشعبية. صوته العذب، رسالته الفنية، وتواضعه جعلوا منه رمزًا خالدًا في الذاكرة الشعبية التونسية. رغم رحيله، يظل اسمه متقدًا في قلوب محبيه، وصوته يتردد في أزقة الجنوب وأسواقه ومهرجاناته، شاهداً على الفن البدوي الأصيل وروح الصحراء الخالدة.