الولاءات الحزبية في التعيينات الإدارية بتونس: بين الكفاءة الغائبة والعدالة المفقودة

الولاءات الحزبية في التعيينات الإدارية بتونس: بين الكفاءة الغائبة والعدالة المفقودة

على مدى عقود طويلة، ظلت الوظيفة العمومية في تونس ساحة صراع غير معلن بين الكفاءة والولاء، حيث تم توظيف آلاف الأشخاص وتعيين المئات في مناصب قيادية لا بناءً على الجدارة أو الخبرة، بل على أساس الانتماء الحزبي أو النقابي أو العائلي. هذه الظاهرة، التي يعرفها الجميع ويتحدث عنها بصوت خافت داخل المؤسسات، أصبحت اليوم من أبرز أسباب تراجع الأداء الإداري وتآكل الثقة في الدولة ومؤسساتها.

التعيين بالولاء: قاعدة لا استثناء

وفق شهادات عديدة من موظفين في قطاعات مختلفة، فإن عملية إسناد المناصب في الإدارة التونسية لا تخضع غالبًا لمعايير موضوعية، بل تتمّ عبر شبكات نفوذ قائمة على "الثقة السياسية" أو "الولاء النقابي". فالمناصب العليا والمتوسطة تُمنح في كثير من الأحيان لمن لهم قرب من دوائر القرار أو "علاقات" مع جهات متنفذة داخل الدولة أو الأحزاب.

هذه الممارسات لم تعد سراً. فالوثائق المسربة من بعض الوزارات، والتقارير الصحفية، وحتى تصريحات المسؤولين أنفسهم، تكشف أن عدداً من التعيينات تمت رغم افتقار أصحابها للشهادات المطلوبة أو الخبرة الضرورية. والنتيجة كانت واضحة: إدارة متخمة بالمناصب وضعيفة في الأداء.

إقصاء الكفاءات: العدالة الغائبة في الوظيفة العمومية

في المقابل، يقف آلاف من أصحاب الشهائد العليا على الهامش، يعانون البطالة والتهميش رغم مؤهلاتهم العالية. المفارقة الصادمة أن كثيراً منهم تقدموا لمناصب أقل بكثير من مستواهم العلمي لكنهم رُفضوا لأنهم لا يملكون "الدعم" الكافي أو "التزكية" المطلوبة.

أحد خريجي الجامعات التونسية قال: "قضيت أكثر من 10 سنوات أبحث عن وظيفة في اختصاصي، بينما أرى من يملك علاقات سياسية يتولى منصباً رفيعاً بعد أشهر قليلة من التخرج." هذه الشهادة تعكس شعوراً متزايداً بـالظلم الاجتماعي وانعدام تكافؤ الفرص في سوق العمل والإدارة العمومية.

شهادات مزيفة ومناصب مشبوهة

إحدى أبرز القضايا التي أثارت الجدل في السنوات الأخيرة هي فضائح الشهادات المزيفة، حيث كشفت التحقيقات أن عدداً من المسؤولين تولوا مناصب عليا بناء على شهادات جامعية مزوّرة أو غير معترف بها. ورغم أن بعض الملفات وصلت إلى القضاء، إلا أن كثيراً منها طُوي في صمت، بسبب تدخلات أو ضغوط سياسية.

هذا المشهد يعكس بوضوح كيف تحوّلت الشهادة من معيار للكفاءة إلى أداة للتزوير. فبينما يقضي آلاف الطلبة سنوات طويلة في التحصيل العلمي، يتمكن آخرون من تجاوزهم بورقة مزيفة أو "توصية نافذة"، مما ضرب في الصميم مصداقية المنظومة التعليمية والإدارية.

عندما تُغلق الأبواب أمام المستحقين

الظاهرة لا تتعلق فقط بالشهادات، بل تمتد إلى منظومة الترقية والتكليف بالخطط. فالكثير من الموظفين الذين أمضوا سنوات في خدمة الدولة بإخلاص، دون أن يحصلوا على فرصة الارتقاء، يرون زملاءهم الجدد يعتلون المناصب فقط لأنهم ينتمون إلى حزب أو نقابة مؤثرة.

أحد الإطارات الإدارية المتقاعدين صرّح قائلاً: "كنت أشاهد زملائي الأصغر سناً يُعينون رؤساء عليّ لأنهم مقربون من جهة نافذة. لم أندم على خدمتي، لكنني شعرت دائماً بأن العدالة غائبة." هذه الكلمات تلخص معاناة أجيال كاملة من الموظفين الشرفاء الذين تم تهميشهم باسم الولاء.

تحليل الظاهرة: من الفساد الصغير إلى الفساد المنهجي

من الناحية التحليلية، فإن ما يحدث في الإدارة التونسية لا يمكن اعتباره مجرد تجاوزات فردية، بل هو نظام موازٍ قائم على المصالح المتبادلة. حيث تتقاطع فيه السياسة بالنقابة، والإدارة بالعلاقات الشخصية، لتتشكل شبكة نفوذ تُمسك بخيوط القرار من خلف الستار.

هذه الشبكة لا تعمل في الخفاء دائماً، بل أحياناً تُمارس نفوذها علناً تحت غطاء "الاستحقاق النقابي" أو "التمثيلية الحزبية". والنتيجة أن الكفاءة أصبحت معياراً ثانوياً، بينما أصبح الولاء هو الطريق الأقصر نحو المناصب.

انعكاسات الظاهرة على الأداء الإداري

تراجع الأداء الإداري في تونس خلال السنوات الأخيرة ليس مجرد صدفة. فالإدارة التي تُدار على أساس الولاءات لا يمكن أن تحقق النجاح. التقارير الرسمية تشير إلى انخفاض الإنتاجية، وارتفاع نسب الغياب، وضعف التنسيق بين المصالح. كما أن قرارات عديدة اتخذت دون دراسات موضوعية، مما تسبب في خسائر مالية وإدارية جسيمة.

في المقابل، نجد أن الدول التي اعتمدت على مبدأ "المسؤول المناسب في المكان المناسب" شهدت نقلة نوعية في الحوكمة والشفافية. هذه المقارنة البسيطة تكشف حجم الضرر الذي تسببه المحسوبية على مستوى المؤسسات العامة، وثقة المواطن في دولته.

رأي الشارع التونسي: غضب مكبوت وإحباط متراكم

في استطلاعات رأي أجريت على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر آلاف التونسيين عن غضبهم من منظومة التعيين بالولاء. اعتبر البعض أن هذه الممارسات أحد أسباب هجرة الكفاءات إلى الخارج، بينما رأى آخرون أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الإدارة، لأن "من يسيّر الإدارة يسيّر الدولة".

أحد النشطاء كتب على فيسبوك: "كيف ننتظر من موظف عُيّن بالمحسوبية أن يخدم المواطن بإخلاص؟ من حصل على منصبه دون استحقاق سيحافظ عليه بنفس الأساليب." هذه التعليقات تلخص عمق الأزمة الأخلاقية والإدارية التي باتت تهدد استقرار الدولة وثقة الناس في العدالة.

الكفاءة في مواجهة الولاء: معركة الإصلاح الحقيقي

كثير من الخبراء يرون أن الخروج من هذه الحلقة المفرغة يتطلب إصلاحاً هيكلياً شاملاً يعيد الاعتبار للكفاءة كشرط أساسي في التعيين والترقية. كما يجب وضع آليات شفافة للمراقبة والتقييم، تضمن أن كل منصب يُسند بناءً على الجدارة لا العلاقات.

بعض التجارب في المؤسسات العمومية أظهرت أن تمكين الإطارات الكفأة من مواقع القرار أحدث فرقاً ملحوظاً في الأداء والانضباط. هذه النماذج يجب أن تُعمّم، لا أن تبقى استثناءات محدودة.

منظور تحليلي: جذور الظاهرة وأسباب استمرارها

من منظور اجتماعي-سياسي، يمكن القول إن إسناد الوظائف على أساس الولاء هو نتيجة طبيعية لغياب الحوكمة والرقابة الفاعلة. فالإدارة التونسية منذ عقود لم تُبنَ على أساس الكفاءة، بل كانت أداة للسيطرة السياسية وتوزيع الامتيازات. ومع تراكم السنوات، ترسخ هذا النمط حتى أصبح "ثقافة إدارية" يصعب اقتلاعها.

استمرار الظاهرة يعود أيضاً إلى غياب المحاسبة. فكم من مسؤول ثبت فشله أو تورطه في شبهات لكنه استمر في منصبه أو نُقل إلى خطة أخرى! هذا الإفلات من العقاب جعل من "الولاء" ضمانة للبقاء، وليس وسيلة للمساءلة.

رأي المجتمع المدني والإعلام

المنظمات الحقوقية والجمعيات المدنية طالبت مراراً بضرورة اعتماد معايير موضوعية في الانتداب والتعيين، معتبرة أن الفساد الإداري لا يقل خطورة عن الفساد المالي. كما دعت وسائل الإعلام إلى كشف ملفات التعيينات المشبوهة وفضح من يقف وراءها، لأن الصمت عليها يعني المشاركة في استمرارها.

 نحو إدارة نظيفة وشفافة

إن مستقبل الدولة التونسية يمر حتماً عبر إصلاح إداري حقيقي يضع حداً لسنوات من المحسوبية والولاءات. فالإدارة ليست ملكاً لأحد، بل هي ملك لكل التونسيين، ومن واجبها أن تخدم الجميع على قدم المساواة.

إن إعادة الاعتبار للكفاءة والنزاهة ليست ترفاً، بل هي ضرورة وجودية لضمان بقاء الدولة واستمرار مؤسساتها. فكل منصب يُسند بغير وجه حق هو ظلم لمستحق، وخسارة لوطن بأكمله.

الإصلاح لن يكون سهلاً، لكنه ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية وشارك فيه المجتمع المدني والإعلام والموظفون الشرفاء. فقط حينها يمكن أن تعود الثقة إلى الإدارة التونسية كركيزة للعدل والتنمية.

تعليقات