لطفي جرمانة: صوت المزود الذي غنّى لوجدان التونسيين

لطفي جرمانة: صوت المزود الذي غنّى لوجدان التونسيين


في ذاكرة الأغنية الشعبية التونسية، يسطع اسم لطفي جرمانة كأحد أبرز الأصوات التي عبرت عن الإنسان البسيط، وغنت للفرح والحزن، للحبّ والفقد، للأحياء الشعبية التي نبضت بإيقاع المزود ورائحة الشاي والخبز الساخن. لم يكن جرمانة مجرد فنان، بل كان لسان حال الناس، وذاك الصوت الذي يشبههم ويشبهونه.

المزود.. لغة الشعب وروح الأصالة

لطالما اعتُبرت الموسيقى الشعبية في تونس مرآة للوجدان الجمعي، وجزءًا لا يتجزأ من هوية ثقافية ضاربة في عمق الزمن. وفي هذا السياق، احتل المزود موقعًا مركزيًا في الذاكرة الموسيقية التونسية، باعتباره التعبير الأكثر صدقًا عن حياة الشارع. ومع جرمانة، لم يكن المزود مجرد آلة موسيقية، بل أصبح وسيلة فنية لإيصال رسائل اجتماعية وإنسانية بلغة بسيطة وعميقة في آن.

من نهج الحديد إلى قلوب التونسيين

وُلد لطفي جرمانة يوم 3 أكتوبر 1967 في "نهج الحديد" بمنطقة باب السويقة العتيقة وسط العاصمة تونس. نشأ في حيّ شعبي نابض بالحياة، حيث اختلطت في أذنه منذ الطفولة أصوات الباعة بزغاريد الأعراس ونغمات الطبال والمزود. لم يدرس الموسيقى في معاهد أو أكاديميات، بل كانت الحياة مدرسته الأولى، وصوته الفطري أداته الأهم.

في بداياته، كان جرمانة يدندن خلسة، يقلّد كبار الفنانين الشعبيين، ويحاول ابتداع صوته الخاص. ورغم محدودية الإمكانيات وغياب الدعم، أصدر أولى أغانيه بجهود ذاتية، ليشقّ طريقًا صعبًا نحو النجومية. وشيئًا فشيئًا، بدأت موهبته تلقى صدى لدى الجمهور، خاصة بعد نجاح ألبومه "من الناس نشكي للناس" الذي شكّل انطلاقته الحقيقية.

مسيرة فنية من رحم المعاناة

اختار لطفي جرمانة أن يسلك درب الفن الشعبي في زمن كانت فيه الأضواء تُسلّط على الأنماط الموسيقية الغربية، مما جعل طريقه مليئًا بالتحديات. لكنه راهن على الصدق والبساطة، وتميّز بصوتٍ خشن عاطفي يحمل في طبقاته شجن الأحياء الشعبية.

لم يكتفِ بترديد التراث، بل طوّره وأعاد صياغته، فدمج بين الإيقاعات التقليدية والتوزيع العصري، دون أن يفرّط في أصالة الفن الشعبي. من خلال أعماله، حرص جرمانة على تناول مواضيع قريبة من الناس: الحبّ، الخيانة، الفقر، الأمل، والهوية.

وظهر ذلك جليًا في أغاني مثل "دمع الرجال" و"سرّي في بالي تخبّى"، حيث لامس مشاعر الذكور المكبوتة، وقدّم صورة فنية صادقة للرجل الشعبي الذي يتألم بصمت.

نجاحات رسخت اسمه في الوجدان الجماعي

لم تكن نجاحات جرمانة لحظية أو عابرة، بل جاءت نتيجة تراكم فني طويل، أسّسه على احترام الذوق الشعبي، وتطوير فنه دون السقوط في الابتذال. تعاون مع كبار الشعراء والملحنين، وأنتج عشرات الألبومات التي لاقت رواجًا واسعًا في تونس وخارجها.

خاصة في صفوف الجالية التونسية في أوروبا، التي وجدت في صوته حنينًا إلى الوطن. كانت حفلاته الشعبية، وخاصة الأعراس، من أبرز محطات تواصله مع الجمهور. وهناك، اختبر حب الناس له عن قرب، بعيدًا عن أضواء الإعلام وبرامج النجومية.

كما عمل مع شركات إنتاج كبرى مثل سوكا وأفريكا كاسات، ما ساهم في توسيع دائرة انتشاره الوطني.

فنان ملتزم بالهوية.. لا بنجومية زائفة

لم يكن لطفي جرمانة مهتمًا بالنجومية التلفزيونية أو الظهور الإعلامي المتكرر. كان يؤمن أن الفنان الحقيقي يُقاس بأثره، لا بعدد لقاءاته الصحفية. لذا ظلّ وفيًا لفنه، ولجمهوره البسيط، وللغته العامية الصادقة.

لم يُغنِّ من برج عاجي، بل من قلب الشارع. ومن هنا، حظي باحترام النقاد والجمهور على حد سواء.

تحديات صحية وظروف إنتاج قاسية

رغم شعبيته الواسعة، عانى جرمانة من التهميش الإعلامي وقلّة الدعم الرسمي. كما عاش فترات اقتصادية صعبة أثرت على وتيرة إنتاجه الفني. وفي سنواته الأخيرة، تدهور وضعه الصحي بسبب أمراض مزمنة، لكنه واصل الغناء رغم التعب، واعتبر أن صوته هو أعزّ ما يملك، وأن الصمت لم يكن خيارًا في حضرة الفن.

رحيل صامت.. وذاكرة لا تموت

في 10 أكتوبر 2019، غيّب الموت لطفي جرمانة عن عمر ناهز 52 عامًا، بمستشفى الرابطة بالعاصمة. وكان لرحيله أثر بالغ في نفوس محبيه، الذين رأوا فيه رمزًا حقيقيًا للفن الشعبي التونسي. لكن وفاته لم تكن نهاية، بل بداية أخرى لصوته الذي بقي حيًا في الأعراس، وفي المقاهي، وفي الإذاعات، وعلى شفاه من أحبوه.

إرثه الثقافي وصوته الإنساني

لم يُطلق اسمه على شارع، ولم يُقام له تمثال، لكنه حاضر في ذاكرة كل تونسي يعرف قيمة الفن الشعبي. أغانيه باتت جزءًا من التراث المعاصر، وصوته أصبح مادة حيّة يتغذى عليها فنانو الجيل الجديد.

وقد ألهمت مسيرته كثيرين بأن النجاح ليس حكرًا على من يملكون المال أو العلاقات، بل هو حليف من يحمل موهبة صادقة، وشغفًا لا يهدأ.

لم يكن لطفي جرمانة فنانًا عاديًا، بل كان تجربة فنية وإنسانية كاملة. غنّى للحياة من قلب الألم، ونقل صوت الناس بحبّ وصدق. سيظل في ذاكرة التونسيين ذاك الصوت الذي يشبههم... ببساطته، بعناده، وبحلمه الكبير.

تعليقات