في الذاكرة الجماعية التونسية، يظلّ اسم توفيق البحري حاضرًا كوجه مألوف وابتسامة صادقة خرجت من أزقة الحي الشعبي لتعانق الشاشات وتدخل البيوت. لم يكن فنانًا بمعايير البريق، بل كان أكبر من ذلك: ممثلًا يشبه الناس، يتحدث بلغتهم، ويفضح ألمهم بضحكته الخفيفة.
رغم أنه لم يصنع مجده في صالات العرض الكبرى، فقد شقّ طريقه بثبات عبر مسرح الهواة والتجارب التلفزيونية والمسرحية والسينمائية التي جعلت منه صوتًا صادقًا لحياة التونسيين، وواحدًا من أبرز رموز الكوميديا المحلية.
من الهواية إلى الاحتراف: مسيرة بدأت من ابن رشيق
بدأ البحري رحلته الفنية سنة 1969 من مسرح الهواة بدار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة، حيث صقل موهبته بين تجارب شبابية صادقة. وفي السبعينات، شارك في تأسيس فرقة "المغرب العربي للمسرح"، وهي تجربة لعبت دورًا كبيرًا في تكوين جيل جديد من الممثلين المرتبطين بالهوية المحلية.
انضم بعدها إلى فرقة مدينة تونس، واكتسب هناك نضجًا فنّيًا إضافيًا، مؤكدًا تميّزه كممثل لا يكرر نفسه، بل يبحث عن الجديد، ويُجيد التوازن بين الكوميديا والدراما، بين البساطة والعمق.
المسرح.. البيت الأول
ظلّ البحري مخلصًا للمسرح، فكان حضوره على الخشبة مميزًا، سواء في أعمال مثل «جرائم زوجية» و«تمرد» و«ضع نفسك مكاني» و«دار الإخوة» و«الدنيا فرجة». سعى دائمًا إلى أدوار تعبّر عن الإنسان التونسي، عن طبقته المتوسطة، عن همومه وآماله.
التلفزيون.. الباجي الذي دخل القلوب
رغم أن بداياته كانت مسرحية، فإن شهرته الكبرى جاءت من شخصية "الباجي ماتريكس" في سلسلة «شوفلي حل» (2005 – 2009). لعب دور صاحب محل إلكترونيات، ونجح في جعل الشخصية أيقونة شعبية، تمثّل الحي الشعبي التونسي بنقاط قوته وضعفه.
هذا الدور لم يكن مجرد تمثيل، بل صار جزءًا من الثقافة العامة، يُتداول في الأحاديث اليومية، وتُستعاد جمله في المقاهي والمدارس.
شارك البحري أيضًا في مسلسلات عديدة مثل «عنبر الليل»، «ريحانة»، «ظفاير»، «قمرة سيدي المحروس»، «دار لوزير»، وكان دائم الحضور في الموسم الرمضاني.
السينما.. حضور واقعي وإن لم يكن بطوليًا
رغم ندرة أدواره السينمائية، فقد ترك أثرًا لافتًا في أفلام مثل «التلفزة جاية»، «آخر فيلم»، «بستاردو»، «نهاية ديسمبر»، «عطر الربيع» وThe Albatross. كان حضوره في هذه الأفلام واقعيًا، بسيطًا، لكنه عميق ومعبّر.
فنان وإنسان
بعيدًا عن الكاميرا، كان توفيق البحري إنسانًا هادئًا، متواضعًا، محبًا للفن من أجل الفن، لا من أجل التصفيق. زملاؤه يشهدون له بالنزاهة ودفء الروح، وكان حضوره في الكواليس يبعث على الطمأنينة والفرح.
رحيل جسدي وبقاء فني
في 18 ديسمبر 2021، توفي البحري إثر أزمة قلبية عن عمر ناهز 69 عامًا. ونعته وزارة الشؤون الثقافية باعتباره من الأصوات التي شكّلت الوعي الفني التونسي. شيّع جثمانه من جامع الزهور إلى مقبرة الجلاز وسط حزن واسع من زملائه وجمهوره.
إرث لا يُنسى
ما تركه البحري يتجاوز المشاهد المسجلة؛ هو إحساس صادق وابتسامة راسخة. كان صوته ولغته مرآةً للمجتمع، وقدرته على تقمّص الأدوار الشعبية جعلته من الممثلين القلائل الذين يلمسون القلب مباشرة دون تكلف.
شهادات رفاقه
الفنانة كوثر الباردي وصفته بالإنسان قبل الفنان، والمخرج صلاح الدين الصيد اعتبره "كنزًا لم يُكتشف بعد"، مؤكدًا أن شخصية "الباجي ماتريكس" لا تمثل سوى جانب بسيط من إمكانياته الكبيرة.
البساطة التي خلدته
تميّز البحري بفن التلقائية. لم يكن يحتاج إلى صراخ أو أداء درامي مفرط؛ كانت إيماءة أو نظرة كافية لتوصيل المعنى. جمهوره، حتى بعد رحيله، لم ينسه، بل استمر في الاحتفاء به، واستعادة مشاهده وجمله، كأنّها جزء من حياتهم اليومية.
إرث في ذاكرة الفن التونسي
يُصنّف البحري ضمن السلسلة الذهبية للكوميديا التونسية، إلى جانب سفيان الشعري ولمين النهدي وكمال التواتي. لم يكن دائمًا بطل العمل، لكنه كان دائمًا من يترك الأثر الأعمق، بجملة واحدة أو نظرة واحدة.
حياة خاصة هادئة
رغم الشهرة، كان الفنان يعيش ببساطة، مكرّسًا وقته لأسرته وأصدقائه، ومفضّلًا الحديث عن الفن على الظهور الإعلامي. لم يكن من هواة البذخ أو الصراعات، بل عاش على طبيعته، وهو ما منحه محبة الناس واحترامهم.
في الختام.. الحضور الذي لا يغيب
توفيق البحري لم يكن مجرد فنان، بل حالة إنسانية صادقة، تماهى فيها الفن مع الحياة. رحل بهدوء، لكنه سيظل حاضرًا في الذاكرة، في كل ابتسامة صادقة، وفي كل إعادة عرض لـ"شوفلي حل". كما يُقال: "بعض الناس لا يرحلون، بل يتحوّلون إلى ذاكرة حيّة تُصادفنا كلما احتجنا إلى معنى الدفء والبساطة والضحكة النابعة من القلب".