عبد العزيز العروي: صوت الحكاية وروح التراث الشعبي التونسي
في زمن ما قبل الصورة والشاشات، حيث كانت الإذاعة نافذة الناس إلى الخيال، سطع صوت دافئ وحكيم، لا يُنسى، حفر لنفسه مكانًا في ذاكرة التونسيين. إنه عبد العزيز العروي، الراوي الكبير وحارس الحكايات الشعبية، الذي نقل بعذوبة الكلمة وحكمة السرد موروثًا ثقافيًا ثمينًا من جيل إلى آخر.
من التعليم إلى المنبر الإذاعي
وُلد العروي سنة 1898 في مدينة تونس، وترعرع في بيئة تقليدية مشبعة بالحكايات الشعبية. درس في المدرسة الصادقية، حيث تلقى تعليمًا يجمع بين اللغة العربية والفرنسية. بدأ مسيرته المهنية كمعلم، ثم موظف إداري، قبل أن يكتشف موهبته في الحكي، التي جعلت منه رمزًا ثقافيًا وإعلاميًا استثنائيًا.
قال الراوي: انطلاقة إذاعية لا تُنسى
في خمسينات القرن الماضي، أطلق عبد العزيز العروي برنامجه الإذاعي الشهير "قال الراوي"، الذي أصبح جزءًا من الطقوس اليومية للعديد من العائلات التونسية. بجملته الافتتاحية: "قال الراوي، وكان يا ما كان، في قديم الزمان..." كان يأسر القلوب وينقل المستمعين إلى عوالم من المغامرة والحكمة والدهاء الشعبي.
امتاز أسلوبه بالسلاسة، واستخدم رمزية ذكية في قصصه، ليعالج قضايا اجتماعية وسياسية دون صدام مباشر مع الرقابة، بلغة تصل إلى وجدان المستمع وتبقى في ذاكرته.
من الإذاعة إلى التلفزة: الصورة تكمّل الحكاية
مع بداية السبعينات، انتقل العروي إلى التلفزة الوطنية، مقدّمًا نسخة مصورة من برنامجه. جلساته الهادئة، بلباسه التقليدي ووجهه الوقور، أصبحت مألوفة لأجيال من التونسيين. وبقيت قصصه التلفزيونية محافظة على عناصر التشويق والرسائل التربوية، مع توظيف الصورة لتعزيز أثر الحكاية.
أسلوب فريد يجمع البساطة والعمق
كان عبد العزيز العروي يستخدم العربية البسيطة الممزوجة باللهجة التونسية، بأسلوب يحترم عقل المتلقي ويصل بسهولة إلى جميع الشرائح الاجتماعية. امتلك براعة فريدة في التحكم بالإيقاع السردي، ما جعل المستمع يتفاعل معه شعوريًا كما لو كان جزءًا من القصة.
تأثير ثقافي عميق
ساهم العروي في ترسيخ الحكاية الشعبية كوسيلة للتعليم والحفاظ على الهوية الثقافية. وقد شكّل جسرًا بين الماضي والحاضر، في مرحلة شهدت تحوّلات مجتمعية كبرى، فبقيت قصصه رمزًا للقيم مثل: الصدق، والعدل، والذكاء الشعبي، والتسامح.
من أشهر حكاياته
- الحكواتي والسلطان: قصص فكاهية تسخر من السلطة والواقع بأسلوب رمزي ذكي، تنقل قيم العدالة والمروءة.
- الشيخ والفتى: حكاية عن الحكمة، والتعلّم من التجربة، والصبر في مواجهة الحياة.
في المناسبات والمهرجانات الشعبية، كان العروي يتفاعل مباشرة مع جمهوره، يروي الحكايات، يضحك معهم، ويستحضر قصصًا من الذاكرة الشعبية في لحظتها، مما زاد من محبته لدى الناس.
تكريمه وإرثه الثقافي
رحل عبد العزيز العروي سنة 1971، لكن صوته ظلّ حيًّا، تُبث تسجيلاته الإذاعية حتى اليوم، وتُدرّس تجربته في الأبحاث والدراسات حول السرد الشعبي والإعلام الثقافي.
لقد مثّل مثالًا نادرًا للراوي الذي جمع بين التقليدي والحديث، وبين الحكمة والفن، وظلّ مصدر إلهام لعديد الإعلاميين والمسرحيين في تونس والعالم العربي.
راوي لا يُنسى
رغم تغيّر أدوات السرد وتطوّر التكنولوجيا، يبقى عبد العزيز العروي رمزًا خالدًا في ذاكرة التونسيين. بكلماته البسيطة وصوته الأخّاذ، استطاع أن يبني عوالم من الخيال والأصالة، دون مؤثرات رقمية، فقط بالكلمة والإحساس.
هو ليس مجرد راوي، بل ذاكرة ثقافية حية، لا تزال حكاياته تتردّد في المجالس والمقاهي، شاهدة على زمن كانت فيه الحكاية أقوى من الصورة.